المقدمة:
جاءت الفلسفة الواقعية لتناقض الفلسفة المثالية وتختلف معها اختلافاً جذرياً فالفلسفة المثالية تنكر العالم المادي وترى أن عالم الحقيقة هو عالم الــمُـثل، أما الفلسفة الواقعية فتؤمن بالواقع المادي المحسوس، وأنه مصدر كل الحقائق وترجع الواقعية في الفكر الفلسفي إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي انطلق مخالفاً لمعلمه أفلاطون، وقد عُد موقف أرسطو هذا معبراً عن الواقعية المعتدلة أو المنطقية، إلا أنها لم تظهر كمدرسة فكرية مستقلة حتى القرن التاسع عشر، وقد ساهم جون لوك بإعطائها دفعاً قوياً، حيث أضاف عدداً من المفاهيم لها وتقوم فكرة الفلسفة الواقعية على أن مصدر كل الحقائق هو هذا العالم (عالم الواقع) أي عالم التجربة والخبرات اليومية.
تعريف الفلسفة الواقعية:
الواقعية في اللغة: مشتقة من الفعل(وقع) وهي كلمة تدل على حصول الشيء وثبوته ووجوبه وأحقيته والأصل في تسمية راجع للأساس الذي تقوم عليه وهو الاعتقاد في حقيقة المادة فالحقيقة موجودة في عالم الأشياء الفيزيقية ووجودها
فالواقعية تعني الاعتقاد بأن العالم الطبيعي والمادي هو مصدر كل الحقائق، حيث أنه هو المصدر الوحيد، فكل ما هو موجود في العالم الخارجي من هواء وإنسان وحيوان ليس مجرد أفكار في العقول، بل موجود وجود حقيقي في حد ذاتها مستقله عن العقل .
أسباب ظهور الفلسفة الواقعية:
ظهرت الفلسفة الواقعية لتناقض أفكار ومنطلقات الفلسفة المثالية، والتعارض بين المثالية والواقعية يكمن في فكرة أساسية وهي: أن المثالية تنكر العالم المادي، وترى أن العالم الحقيقي الوحيد هو عالم المثل. في حين أن الفلسفة الواقعية تؤمن بالواقع المادي المحسوس وأن هذا الواقع مصدر كل الحقائق
أسس الفلسفة الواقعية:
يمكن عرض أهم الأسس والمبادئ الرئيسة التي يلتقي عندها التفلسف الواقعي
1- أن العالم الطبيعي المادي (الحقيقي) له وجود مستقل عن الفكر:
فالعالم الطبيعي أساسه مادي ووجوده حقيقي وهو قائم بذاته، ومستقل عن العقل أو الفكر، وما العقل إلا محصلة التجارب والخبرات الحسية المستمدة من عالم المادة.
الميتافيزيقا الواقعية: جميعهاً تشترك في أنها صنعت من مادة خام، بمعنى أن لكل منها جانب مادي، وعلى الرغم من أنها جميعاً تشترك في جانبها المادي أو ما أسماه أرسطو بالهيولة، إلا أن كل شيء من هذه الأشياء مختلف في طبيعته عن الأشياء الأخرى.
ومن ذلك يقول أرسطو بافتراض المادة/ الصورة Matter/ Hypothesis ويقضي هذا الافتراض أن الأشياء كما تتباين في الطرق التي تنتظم بها المادة حالة تكوينها، مما يؤدي إلى تمايز الأشياء وتباينها، فإن ثمة اختلافاً آخر يقع بين الأشياء في قدر كل من المادة والصورة من الشيء المحسوس، فالأشياء السفلي تغلب عليها المادة أكثر مما تغلب الصورة، فالأرض أقرب الأشياء إلى المادة النقية أو المادة الأولى الخالصة، وكلما ارتفعنا إلى أعلى سادت الصورة وغلبت على المادة، وهكذا كلما تحركنا من أسفل إلى أعلى فإن الأشياء تتحرك نحو صورة أكثر ومادة أقل، حتى يصل الأمر في النهاية إلى صورة خالصة بلا مادة وهي التي أسماها بالمحرك الأول أو الله .
2- التكافل بين الحواس والعقل:
حيث ترى الواقعية إن الحواس باعتبارها أدوات للعقل، تنقل وقائع العالم الخارجي وصورته إلى عقل الإنسان، فيدرك العالم ويتفاعل مع بيئته، ويرى الواقعيون انه يمكن التغلب على خداع الحواس وقصورها بإخضاعها لسيطرة العقل وإحكامه والاستعانة بالمنهج العلمي.
3- المزج بين الجسم والعقل:
يتفق الواقعيون أن الإنسان أحد أفراد النوع الحيواني، وانه جزء من هذا العالم وخاضع لقوانينه وانه يتكون من عقل وجسم متحدين.
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة النشؤ والارتقاء بين الكائنات عند أرسطو، وذلك طبقاً لما هو كائن من اختلاف في علاقة الصورة بالمادة فيما بينها تختلف عن نفس الفكرة عند عالم البيولوجيا دارون، حيث تنفي تماماً فكرة أرسطو الارتقاء من نوع إلى أخر من الموجودات، حيث يقول أرسطو بأزلية وأبدية الموجودات فالإنسان هو الإنسان منذ خليقته، ولم ينجم عن حيوان آخر أدنى منه من جراء الارتقاء الحادث في العلاقة بين الصورة والمادة، وإنما الارتقاء في نظر أرسطو هو الاتجاه في نفس الشيء من مادة أكثر وصورة أقل إلى مادة أقل وصور ة أكثر، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من التحديد والتمايز بين الأنواع دون التحول من نوع إلى نوع آخر، في حين قال دارون بفكرة الارتقاء فيما بين الأنواع .
4- المعرفة عملية استكشاف العالم المادي:
الحقيقة سابقة في الوجود للإنسان وعلى الإنسان السعي وراء المعرفة واكتشاف القوانين والمبادئ الموجودة في العالم لذا ينكر الواقعيون وجود أفكار فطرية في الإنسان، أي أنه يولد وعقلة صفحة بيضاء. ومصدر المعرفة هي حقائق ومفاهيم قائمة بذاتها ومستقلة عن العقل وأن العقل يكتشفها ويكتسبها نتيجة لمروره بالخبرات.
5- التغير صفة هذا العالم إلا أن الحقائق ثابتة:
ترى الواقعية أن الطبيعة وعناصرها نامية ومتغيرة، إلا أن هذا التغير نسبي كون العالم خاضع لقوانين ليس للإنسان إلا سلطة قليلة عليه.
6- معيارية القيم اجتماعية:
تؤمن الواقعية بأن الحسن ما استحسنه المجتمع، والقبيح هو ما يراه قبيحاً، أي إن القيم معيارها المجتمع فالقيم في الواقعية متغيرة.
مدارس الفلسفة الواقعية (اتجاهاتها):
تعد الواقعية واحدة من أقدم الفلسفات وبسبب تاريخها الطويل كان لها كثير من المحدثين ويندرج تحتها العديد من المدارس
فبالرغم من الاتفاق على الاعتقادات الرئيسية إلا أن هناك اتجاهات مختلفة أدت إلى وجود عدة اتجاهات ومدارس يمكن أن نصنفها إلى ثلاث مدارس واقعية .
أولاً: الواقعية الكلاسيكية:
وتعرف أحيانا باسم الواقعية الإنسانية، وهي أصل الفلسفات الواقعية الأخرى، وهي واقعية أرسطو (382-322ق.م) مؤسس هذه الفلسفة وكان أرسطو واقعي النظرة، تجريبي النزعة، ويعتقد الواقعي الكلاسيكي أن العالم الخارجي موجود بالفعل حتى وإن كان بعيداً عن تناولنا وإدراكنا، كما تؤمن الواقعية الكلاسيكية بمدركات الحس وتثق بها ثقة لا حدود لها. ويطلق البعض على هذه الحقبة اسم الواقعية الساذجة لأنها كانت تعكس موقف الإنسان الاعتيادي، كما أنها ترى أنه لا حاجة إلى التدخل السماوي لتفسير الكون أو الوجود ويمجدون سيطرة العقل على الوجود .
ثانياً: الواقعية الدينية:
يؤكد أصحاب الواقعية الدينية والذين من أشهر أعلامها عالم الدين القديس توماس الاكويني إن العالم المادي حقيقي ويقوم خارج عقول أولئك الذين يلاحظونه، ولكنهم يؤكدون أن كلا من المادة والروح قد خلقها الخالق، ومعرفة الخالق تتم بالحدس والإلهام، ويمكن الحصول على المعرفة بالعقل، والإنسان من وجهة نظر الواقعية الدينية مزيج من المادة والروح، وهو حر ومسئول عن تصرفاته وقد وضع على الأرض ليعبد خالقة وكما خلق الإنسان بقدرة الخالق فانه بعد الموت تصعد روحة لكي تعيش مع الخالق.
وبهذا فان الفلسفة الواقعية الدينية تشمل أفكار الكلاسيكية إلا أنها تصبغها بصبغة دينية محاولة التوفيق بين العقل والدين مستخدمة العقل في الدفاع عن الدين بوجه عام.
وكان من بين الفلاسفة المسلمين الإمام الغزالي وابن سيناء الذين طوعوا تعاليم أرسطو فكانت فلسفاتهم تدعونا إلى تأمل الواقع الكوني بالعقل
ثالثاً: الواقعية العلمية أو الطبيعية:
يشير (العتيبي) إلى أن هذه المدرسة تقوم على أن المعرفة تأتي أولاً للإنسان عن طريق حواسه، من خلال اكتساب المعرفة.
لذلك جاءت هذه المدرسة بعد ثورة العلم الطبيعي في أوروبا خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر. وكان من أبرز روادها فرانسيس بيكون وجون لوك، وقد أدرك فلاسفة الواقعية العلمية أو الطبيعية أهمية العلم وطريقته العلمية والتجريب لمعرفة الأشياء والعالم الخارجي، لذا دعوا إلى تطبيق المناهج العلمية لدراسة جوانب الحياة البشرية، فالإنسان كائن بيولوجي لدية مناشطة العقلية والروحية، وفي القرن العشرين تأثرت الواقعية العلمية بالتقدم العلمي.
مذاهب الفلسفة الواقعية:
تبلورت الفلسفة الواقعية في عدد من المذاهب الأوربية بدءاً من القرن السادس عشر على النحو التالي:
1) المذهب الإنساني الواقعي:
ساد خلال القرن السادس عشر، وقد اهتم بدراسة الآداب اليونانية والكلاسيكيات القديمة للاستفادة منها في واقع الحياة التجريبية، وذلك من خلال معرفة تراث الماضين، معرفة الدوافع الإنسانية ونظم الحياة البشرية، وايضاً لمعرفة الحقائق التاريخية والعلمية .
2) المذهب الاجتماعي الواقعي:
ساد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان يدعو إلى اعتبار التربية العملية ذات مضمون اجتماعي، وأنها تعد الإنسان للمستوى الذي يجعله يفهم حقوقه وواجباته، ويكون ذلك؛ من خلال تحقيق الحياة الاجتماعية الناجحة والسعيدة للفرد وتهذيب أخلاقه وتشكيل ميوله وطباعه وتنمية قدراته واتجاهاته بما بجعله عضواً نافعاً في حياته العملية .
3) المذهب الحسي الواقعي:
ساد خلال القرن السابع عشر، ويهتم أصحابه بدراسة الظواهر بالطريقة استقرائية عملية، حيث قام هذا المذهب على الاعلاء من شأن الحواس ومن شأن الادراك الحسي في اكتساب المعرفة في عملية التربية .
4) المذهب الطبيعي الواقعي:
ساد خلال القرن الثامن عشر ويعتمد على استخدام التربية كأداة للإصلاح الاجتماعي، وأن تكون الأولوية للعلوم الطبيعية في المناهج وبهذه الدعوة تبلورت الحركة العلمية للتربية .