موقف الإسلام من وقت الفراغ:
جاء الإسلام خاتماً للديانات والرسالات السماوية، بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية البشر، ولإقامة عقيدة التوحيد ولتزكية نفوسهم وتطهيرها. يدعو البشر للخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث... والإسلام – وهذه بعض صفاته وأهدافه – أخذ في اعتباره حاجات البشر صغيرهم وكبيرهم، ضعيفهم وقويهم.. ووضع لهم حدوداً لا يعتدوها.
ولقد جاء الإسلام في عصر فيه الفوضى واللهو والظلم، حتى عميت الأبصار عن نور الحق، فكان لابد من إعادة التوازن بين حاجات الدنيا وحاجات البدن وحاجات الروح، وحين بدأت العقيدة ترسخ في النفوس كانت تتمة الإصلاح بشجب اللهو وما يحيط به من خمر وميسر وغيرها من مسببات الفساد ومن عوامل هدم البشر. ولكن الإسلام لم يأمر الناس بأن يقضوا كل وقتهم في العبادة، ولا أن ينسوا الترويح عن أنفسهم ترويحاً يعيد إليهم نشاطهم، ويقوي أجسامهم وعقولهم دونما فساد أو مضره – وورد في هذا قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)). رواه البخاري[1].
وقد أمر الإسلام أتباعه بالاعتدال، ونهاهم عن الخبائث، فحرم عليهم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والوقوف في طرقات الناس وشجع فيهم القوة وبناء أجسامهم وإراحة عقولهم..
يقول أبو الفرج ابن الجوزي في مؤلفه صيد الخاطر: "لما سطرت هذا الفصل المتقدم رأيت أذكار النفس بما لابد لها في الطريق منه، وهو أنه لابد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ما يمكن، وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السابح في طلب الدر صعود، ودوام السير يحسر الابل، والمغازة صعبة".
ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتلطف بنفسه ويمازح...
وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.. فأما من برد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق وقد قال صلى الله عليه وسلم((إن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
قال البسمتى:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة تحم وعلله بشئ من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن بقدر ما تعطي الطعام من الملح
وقال أيضاً:
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممعن لاتمتها ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا وبالتركيب منفعة الدواء
((انتهى كلام ابن الجوزي)) (صيد الخاطر ص322)
ويبقى أن نؤكد في هذا المقام أن الفراغ الذي يعرفه المسلم يختلف عن الفراغ عند غيره، فالمسلم بجانب مطالب البدن وحاجاته له مطالب للروح يلبيها بعقيدته وعباداته، وهذه تشغل عليه جانباً من وقته في ليله ونهاره، وفي فترات من العام ومواقيت وهي تدخل عليه السرور والراحة، وتعينه على الراحة من جهد الحياة فيشعر بالطمأنينة، ومن هنا كان توجيه القرآن الكريم للرسول صلوات الله وسلامه عليه.
{فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب} [سورة الشرح: 7 – 8].
وكان توجيهه للمؤمنين:
{قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}
وفي الوقت نفسه فإن القرآن الكريم يحض اتباع الإسلام على النظر في ملكوت الله، والاستمتاع بما فيه من جمال وبشكل يساعدنا على تمام العبودية بالله لنقول في الختام سبحان الذي سخر لنا هذا.
{ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [سورة النحل: 6].
{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [سورة الأنعام: 99].
{ومن الحبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سودٌ} [سورة فاطر: 27].
والإسلام لا يمنع أتباعه من التماس الراحة بعد العناء فأعيادهم خير شاهد على ذلك، ولا يمنعهم من الترويح، ولكنه ترويح في غير معصية ولا مضرة ولا إسراف – الإسلام بناء وإصلاح وفراغ المسلم يجب أن يكون كذلك بناء وإصلاحاً. وسعياً في الخير وعمراناً في الأرض وإسعاداً للناس.