الفلسفة البرجماتية
لقد كرم الله الإنسان بالعقل، وفضله على كثير من خلقه ، وجعله مكلفاً ومحاسباً على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
ولكن بعض البشر يفرط في استخدام العقل، ويضع معايير المصالح والمفاسد لعقله، ويربطها بمقدار المصالح الشخصية، التي يكسبها ويتحصل عليها من خلال تصور نسبي أو ميل نفسي أو حدس شخصي.
وقد صنفت كثير من المفاهيم تلك الفلسفات التي تحدد معايير الصحة والصدق بمقدار ما تحقق من منافع ومكاسب، ومن تلك الفلسفات (الفلسفة البراجماتية).حيث نشأت كلمة براجماتزم حين تساءل بيرس عن معنى الفكرة وما معنى العبارة، ومتى يكون للفكرة معنى؟ ومتى تكون العبارة صادقة ومتى يجوز لنا أن نتكلم عن العبارة بوصفها معبرة ، ومتى لا يجوز؟.
وكان جواب بيرس بأن الفكرة هي ما تعمله، أن الفكرة ومعناها يرتبط بنتائجها وآثارها العملية المترتبة عليه ، ولذلك صاغ كلمة براجماتزم من (Practice) والتي تدل على الممارسة والفعل والمشتقة بدورها من اللفظ اليوناني (Pragma) الذي يدل على الفعل والعمل. (334:5)
أولاً: مفهوم البراجماتية:
عرفها المعجم الفلسفي بأنها:
مذهب يرى أن معيار صدق الأداء والأفكار إنما هو في قيمة عواقبها عملا، وأن المعرفة أداة لحزمة مطالب الحياة وأن صدق قضية ما هو كونها مفيدة ، والبراجماتي بوجه عام: وصف لكل من يهدف إلى النجاح أو إلى منفعة خاصة. (3: 32).
أنا من حيث الاصطلاح: فقد مرت بثلاث مراحل، كل مرحلة تنتمي إلى فيلسوف من فلاسفة البراجماتية وهم (بيرس، جيمس، ديوي):
فقد عرفها بيرس : من دراسته للفيلسوف الألماني (كانت) -وهذا يعني أن البراجماتية تأثرت إلى حد ما لا بروح الحياة الأمريكية وحدها، وإنما ببعض المؤثرات الأوروبية- حيث ميز (كانت) البراجماتي من العملي ، فالعملي ينطبق على القوانين الأخلاقية التي يعدها أولية (قبلية) في حين أن البراجماتي ينطبق على قواعد الفن وأسلوب التناول الذين يعتمدان الخبرة ويطبقان في مجال الخبرة.
( 6: 90)
أما وليم جيمس: فقد أعطى للبرجماتية طابع النفع، فقد استخدم على اصطلاح (القيمة الفورية) لما نصفه بأنه صادق، وكأن العبارات الصادقة مثل السلع المطروحة في السوق، قيمتها فيما يدفع فيها من ثمن لا في ذاتها.
أما جون ديوي: فقد عرف اتجاهه بما يسمى بـ ( الوسيلة) نسبة إلى (وسيلة) وأحياناً نسميها (الأداتية) نسبة إلى (أداة) وقد استطاع ديوي أن يرسي دعائم الفلسفة البرجماتية، ويحدد معالمها، وقد جعل الفلسفة البراجماتية منهجاً علميا تجريبيا محدداً. ، أن ديوي ينظر إلى المعرفة كأداة للعمل، ووسيلة للتجربة، فالفكرة أداة فعل لديه.
وتعرف البراجماتية بأنها: فلسفة تصور العصر العلمي الذي نعيش فيه اليوم بصفة عامة، وتصور الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في مدينتهم الصناعية الحديثة بصفة خاصة.
(1: 278).
والفلسفة البراجماتية لها عدة مسميات: فيطلق عليها أحياناً الفلسفة العلمية أو النفعية ، أو الإجرائية، أو الأدائية، الوسيلة أو الوظيفة أو التجريبية. (3: 332).
والبراجماتية Pragmatism مصطلح فلسفي يعني لغوياً ما هو عملي، كما يستخدم المفهوم – البراجماتية- ليصف كل النظريات أو الممارسات التي تؤكد على النتائج والغايات وما يعود منها من نفع، وذلك من خلال تجريبها وإعمالها في الواقع الحياتي.
ثانياً: نشأة البراجماتية:
يعتقد العديد من العاملين في حقل التربية أن الفلسفة البراجماتية فلسفة أمريكية وليدة القرن التاسع عشر إلا أن الحقيقة عكس ذلك فهي ليست أمريكية النشأة وليست وليدة القرن التاسع عشر ، بل قديمة قدم الفلسفة اليونانية ، تقود جذورها إلى الفكر الإغريقي. وتعزى جذورها إلى هرقليطس ، الذي ركز على فكرة التغيير المستمر، من هذا يتبين لنا أن الفلسفة البرجماتية قديمة حديثة ؛ قديمة لأن جذورها تعود إلى العصر الإغريقي، وحديثة لأنها ظهرت بحلتها الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كردة فعل لموجات الفلسفة المثالية التي كانت تطغى على الفكر الأمريكي، والتي جاءت إليه من أوروبا على وجه التحديد من ألمانيا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى نفر من الأساتذة الجامعيين المختصين في الدراسات الفلسفية في جامعة هارفارد، ونظرا لتغير الظروف الاجتماعية في المجتمع الأمريكي وتحول الناس من زراع في الريف إلى صناع في المدن والاهتمام باستغلال الموارد الطبيعية ، مما أعلى من شأن العمل واليد ، لم يعد التيار المثالي على قوته ومن ثم كان لابد أن يحدث رد فعل عكسي يرمي للأخذ بالمنهج العلمي وازداد إقبال الناس على الدراسة العلمية في حل مشكلاتهم، حيث شعر جماعة من خريجي (هارفارد) بضرورة التوجه نحو الفعل والمستقبل، فآمنوا بمنهج العلم التجريبي، واعتبروه منهجاً سليما في التفكير، وقالوا: أن الفلسفة لابد لها أن تقوم على أساس من العمل والخبرة والتجريب حتى تكون أداة فعالة لخدمة المجتمع البشري .
أي أن الفلسفة البراجماتية تعد من أكثر الفلسفات التي اقتربت – كفلسفة – من العلم، فبعد أن كانت الفلسفة وما تتطلبه من تفكير يعتمد على التأمل والتجريد ومعالجة القضايا الكبرى، ظهرت الفلسفة البراجماتية برؤيتها إلى ضرورة التوجه نحو الفعل أو العمل، والتفكير في القضايا الفلسفية في إطار علمي وبمنهج تجريبي، وأنه على الفلسفة كي تخرج مما وضعت نفسها فيه من الدوران في حلقة مفرغة، أن تأخذ بمقومات التفكير العلمي ومبادئه.
-يعتبر جون ديوى john deweyمن رواد الفلسفة البراجماتية الاوائل وقد ولد على أرجح الاقوال فى اكتوبر سنه 1859 م فى برلنجتون بولاية فرمونت vermont بالولايات المتحدة الأمريكية وتلقى التعليم الابتدائى والثانوى بمدارس مدينته بالولاية، ثم التحق وهو فى سن السادسة عشرة بجامعة ولاية فرمونت حيث درس : اللغة اليونانية واللغة اللاتينية والتاريخ القديم والهندسة والعلوم الطبيعية . وقد اشتغل ديوى بالتدريس فى مدارس ولاية فرمونت بعد تخرجه فى الجامعة وقد كان التدريس احد اسباب عشقه للتربية وسحره بالتعليم .
وحصل جون ديوى على درجة الدكتوراة فى الفلسفة على الرغم من أنه كان مفتونا بالتربية واشتغل مدرسا للفلسفة واستاذا لها سنوات طوال فى كثير من الجامعات الامريكية مثل جامعة فرمونت وجامعة مينيسوتا وجامعة مينتشجان واستقر به المقام فى جامعة شيكاغو بعد انضمام التربية لعلم النفس والفلسفة بها حيث رأى فى ذلك اشباعا لولعه بدراسة التربية. وقد مكث طويلا فى جامعة شيكاغو ثم غادرها إلى جامعة كولومبيا اثر خلاف له مع مع رئيس جامعة شيكاغو .
وقد انشأ جون ديوى فى شيكاغو مدرسة ابتدائية اطلق عليها اسم مدرسة المختبرLaboratory School وذلك لاختبار افكاره التربوية فى هذه المدرسة.
ولقد حذت دول كثيرة حذوه فى هذا المضمار – وقد توفى جون ديوى سنه 1952 م تاركا خلفة تراثا تربويا ضخما ومن اهم جوانب هذا التراث مؤلفاته التربوية الكثيرة , ومنها على سبيل المثال وليس الحصر : الديمقراطية والتربية ، عقيدتى التربوية ، المدرسة والمجتمع المدرسة والطفل، الخبرة والتربية وهكذا .
وقد نشأت الفلسفة البراجماتية فى الولايات المتحدة الامريكية فالمجتمع الامريكى يعتبر هو مهد هذه الفلسفة ، ولذلك جاءت انعكاسا لظروف هذا المجتمع وخصائصه، والمدخل الطبيعى للتعرف على هذه الفلسفة يقتضى التعرض لظروف نشأة المجتمع الامريكى والعوامل التى اثرت على هذه النشأة من جهة، وعلى الفكر الامريكى من جهة أخرى
ذلك الفكر الذى انجب بعد مخاض عسير فلسفة جون ديوى البراجماتية.
نشأة المجتمع الامريكى :
تعددت وتنوعت الدوافع التى أدت إلى تكوين المجتمع الامريكى حيث جاء المهاجرون إلى هذه الارض البكر من مختلف انحاء العالم، فمنهم من هاجر اليها هروبا من الاضطهاد الدينى، ومنهم من هاجر إليها هروبا من الاضطهاد السياسى، وفريق من المهاجرين كان دافعهم للهجرة الهروب من الفقر المدقع فى بلدانهم الاصلية إلى غير ذلك من اسباب ودوافع الهجرة.
ومجتمع جاء بناؤه فى ظل هذه الدوافع يستوجب بالضرورة أن تسود بين افراده الروح الديمقراطية والشعور بالحرية، وليس ذلك فحسب بل الاستقلالية من جهة والفردية من جهة أخرى، ومن اهم هذه العوامل على الوجه التالى :
(أ ) الديمقراطية :
تميز القرن التاسع عشر بالدعوة إلى الديمقراطية بل ومارس ذلك بعض الشعوب ولكن على نطاق ضيق، ويأتى فى مقدمة هذه الشعوب الشعب الامريكى، ومما ادى إلى انتشار الديمقراطية فى الولايات المتحدة ارتباط المهاجرين بروابط وقيود محدودة وضيقة، الأمر الذى استتبعه انتشار الافكار المعبرة عن الحرية الفردية .
وعندما يذكر لفظ الديمقراطية يتبادر إلى الذهن نوع من أنواعها فقط الا وهو الديمقراطية السياسية أما الديمقراطية الاقتصادية أو الديمقراطية الاجتماعية أو ديمقراطية التعليم فليست شائعة فى الاذهان مثل شيوع الديمقراطية السياسية ولا ينصرف القصد اليها إلا إذا اضيف إلى لفظ الديمقراطية لفظ : الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليم وهكذا.
والناس مسحورون بما يتمتع به الشعب الامريكى من حياة تنتشر فيها الديمقراطية وربما يرجع هذا السحر إلى تمتع الولايات المتحدة الامريكية بقوة عسكرية واوضاع اقتصادية وتكنولوجية هائلة حتى إنها اصبحت تتبوأ مكان الصدارة الدولية بعد تفسخ الاتحاد السوفيتى ، ومن ثم قويت قبضتها على العالم وزادت سيطرتها، اضف إلى ذلك امتلاك الولايات المتحدة لاجهزة اعلامية متطورة ملكت على العالم قلبه بل وانفاسه وترتب على هذه الملكية طنطنة اعلامية ليس لها مثيل عن الحياة الديمقراطية فى امريكا .
وحتى نكون منصفين فى أحكامنا وموضوعيين فى آرائنا يتمتع هذا المجتمع إلى حد كبير بالديمقراطية السياسية ولكن مستوى هذه الديمقراطية دون ما تلوكه اجهزة الاعلام الامريكية او يظنه الكثيرون فمثلا تخلو الحياة السياسية الامريكية من تزييف نتائج الانتخابات حتى على مستوى رئيس الدولة, ولكنها لا تخلو من وضع ضوابط تحول دون وصول الزنوج – الافروا امريكيون إلى مراكز السلطة . أذن هى ليست ديمقراطية سياسية مطلقة ولكنها نسبية إلى حد بعيد .
اما عن ديمقراطية التعليم فى الولايات المتحدة الامريكية وخصوصا التعليم العالى والجامعى فانها ديمقراطية شكلية من جهة ونسبية من جهة أخرى شكلية لانها تنصرف إلى اشكال التعليم ونسبية لان فرص التعليم الجيدة المتاحة غالبا ما تكون بمصروفات والراصد لاعداد الطلاب الامريكيين من البيض والسود يلاحظ خللا فى تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص فى التعليم فالفرص المتاحة امام البيض اكثر وافضل عن السود وهذا يعكس الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية العالية التى يتمتع بها البيض عن السود واثر ذلك على ديمقراطية التعليم ، وليس ذلك بخاف.
(ب) الحرية :
ان انتشار مصادر الثروة فى الولايات المتحدة الامريكية وتنوعها بين مصادر معدنية وغلات زراعية بل ووجودها بوفرة هائلة ساعد على انتشار الحرية فى طول هذه البلاد وعرضها والواقع ان الحرية فى هذه البلاد مكفولة للجميع فلك أن تتحدث عن السياسة الخارجية والسياسة الداخلية للولايات المتحدة دون خوف أو حرج ولك أن تناقش سياسة رئيس الدولة بل وتتعرض لشخصيته دون خوف ايضا ولك أن تناقش برامج الاحزاب هناك بحرية تامة , والزائر لهذه البلاد أو المقيم فيها يدرك على الفور انعدام الحرية فى تناول موضوعات مثل التفرقة العنصرية ، فهذا موضوع محظور طرقه على الوافد أو المقيم الاجنبى أو الامريكى على حد سواء .
ويتمتع الامريكيون بحرية زائدة قد تصل إلى حد الفوضى فيما يتعلق بالمأكل والملبس والنوع وغير ذلك وفى تقدير المؤلف أنه فى ظل هذه الحرية ذابت الاختلافات فى الادوار الاجتماعية بين الرجال والنساء ومن الدلائل على ذلك أن المؤلف تجول فى رحاب مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة خلال فبراير 1997م – كان المؤلف فى مهمة علمية إلى جامعة بتسبرج – ودخل بعض اسواقها وسأل البائعة عن نوع معين من الملابس ليعرف هل هو للذكور او الاناث ففاجأته بقولها " لك ان تشترى ما تشاء وتلبس ما تريد بغض النظر عن هذا الامر ومثل هذه المواقف وغيرها وظاهر حال الحياة الامريكية يعكس تداخل الادوار الاجتماعية للرجال والنساء , والمؤلف لا يوافق طبعا على المزيد من هذه الحريات ولكن لا بأس منها فى حدود معينة .
(ج) تعميق الفردية أو تعميق الاستقلالية :
الامريكيون شعب فى جملته لا يميل الافراد فيه إلى بناء علاقات اجتماعية كثيرة أو نشطة وإذا ما أقدم الامريكى على بناء علاقات من هذا القبيل ففى الغالب تكون بدافع المنفعة والا فلا , وقد وصل الامر فى بعض المدن حدا يدعو إلى الاستغراب حتى أنه كاد الجار لا يعرف جاره ولا يكاد يربط العاملين فى مؤسسة واحدة سوى علاقات العمل، فعناصر الثقافة الامريكية وتقدم الحياة العلمية والتكنولوجيا وتوافر السلع فى الوقت المعاصر أوشك ان يحقق للمواطن الامريكى الاكتفاء الذاتى فهو ليس فى حاجة للتعرف على جاره أو زميله فى العمل إلا بالقدر الذى يحقق له مآرب شخصية ، ومن ثم اوشكت أن تغرب شموس : المودة والمروءة والشهامة وغيرها من الحياة الامريكية.
وتجدر الاشارة إلى أن الامريكين أسرفوا فى هذه الاستقلالية إلى الحد الذى انعدم فيه بر الوالدين وصلة الارحام واخذوا يوجهون كل جهودهم وجلبها للعمل والانتاج لتحقيق منافع شخصية وهم بذلك يترجمون فلسفة جون ديوى البراجماتية – النفعية – بشكل لا تعورى إلى واقع عملى وان شئت الدقة قل استطاع جون ديوى ان يبلور جوهر الشخصية الامريكية فى فلسفة اسماها الفلسفة البراجماتية فكل امريكى براجماتى قبل ان يطالع جون ديوى المجتمع الامريكى والعالم بفلسفته البراجماتية ولذا يجوز لنا القول : ان الجون ديوية ان صح هذا التعبير – فى اعماق الشخصية الامريكية قبل ان يظهر جون ديوى وفلسفته إلى ساحة الوجود.
(د) الروح العملية :
إن أبسط مفهوم للروح العلمية هو : قياس الامور بما تنتهى اليه من نتائج ومدى صلاحتيها فى التغلب على المشكلات القائمة دون ضغط من عادات أو تأثر بتقاليد والفلسفة البراجماتية تأخذ بالروح العلمية على النحو السابق بيانه وتقول أيضا ان صلاحية المناهج الدراسية رهن بقدرتها على التعامل مع المواقف القائمة والاكثر من ذلك ان احد رواد هذه الفلسفة وهو "بيرس" يقول ان اهتمامنا بموضوع ما يتوقف على ما ينتج من اثار عملية عن هذا الموضوع كما أن من أهم مقاييس الحقيقة هو ما تؤدى اليه من اعمال منتجة .
ولقد تأثرت الفلسفة البراجماتية ببعض العوامل العالمية من جهة والعوامل المحلية من جهة أخرى الامر الذى ترتب عليه صياغة هذه الفلسفة فى ظل العوامل العالمية والمحلية ومن أهم هذه العوامل ما يلى :
(أ ) الفلسفات الدولية :
اطلق مسمى الفلسفات الدولية على الفلسفات التى ذاع صيتها على المستوى الدولى، ومن هذه الفلسفات : الفلسفة السقراطية والفلسفة الافلاطونية والفلسفة الجان جاك روسوية وغيرها , وتجدر الاشارة إلى أن الفلسفة البراجماتية تأثرت بفلسفة سقراط وأخذت منها القاعدة العامة التى تقول ان المعرفة هى مفتاح الفضلة كما تأثرت بالفكرة العامة فى فلسفة جان جاك روسو، والتى تقول أن الطفل هو اساس العملية التعليمية ، كما أخذت عن بستالوزى اهمية استخدام المحسوسات فى تعليم الاطفال . وقد تأثرت الفلسفة البراجماتية بفلسفة بيكون واخذت عنها اهمية المعرفة التجريبية بل ضرورة التجريب نفسه.
(ب) ارتباط العلم بالتكنولوجيا :
شهدت فلسفة جون ديوى تطور ملحوظا فى العلاقة بين العلم والتكنولوجيا وقد تفجر هذا التطور على أيدى علماء مشاهير امثال فرنسيس بيكون الذى يعتبر من أوائل الذين قدحوا زناد الفكر نحو الاهتمام بالتطبيقات العلمية ذلك لان العلم بدون تطبيق كشجر بلا ثمر .
وهذا القدح الذهنى من جانب بيكون وغيره من العلماء ساعد على ازدياد التحام النظرية بالتطبيق بل وترجمة الحقائق النظرية إلى واقع علمى تكنولوجى ملموس، ولقد تأثرت الاسس الفلسفية التى تقوم عليها الفلسفة البراجماتية كما تأثرت تطبيقاتها فى مجال التربية والتعليم باهمية الربط بين النظرية والتطبيق .
(ج) المنهج العلمى فى التفكير :
شهد المنهج العلمى فى التفكير تطورا ملحوظا على ايدى علماء الفيزيقا التجريبية وقد دفع بيكون وغيره من العلماء هذا المنهج خطوات على طريق التقدم حتى سيطر سحر هذا المنهج على الفكر والحياة بمختلف جوانبها والابعد من ذلك ان هذا المنهج اصبح اسلوبا للحياة وجدير بالذكر أن نهضة ونضوج المنهج العلمى تعاصر مع ميلاد الفلسفة البراجماتية ، ومن ثم جاء اهتمام هذه الفلسفة بذلك المنهج حتى اعتمدته منهجا رئيسا من مناهج البحث واسلوبا فى اساليب التفكير .
(د) ظهور الكثير من الثورات والحركات الفردية والسياسية :
تزامن ظهور الفلسفة البراجماتية مع كثير من الثورات والحروب والحركات الفردية والسياسية الدولية والاقليمية فمع بزوغ فجر هذه الفلسفة وقعت الحرب العالمية الاولى والحرب البلشفية وحروب اقليمية كثيرة مثل الحروب الانجليزية والفرنسية فى الشرقين : الادنى والاوسط كما شهدت هذه الفلسفة قيام عصبة الامم ، والحرب العالمية الثانية وقيام الامم المتحدة ، والحركات الفردية والسياسية التى تطالب بمزيد من الحرية فى كثير من البلدان .
وتجدر الاشارة إلى تأثر الهيكل الفلسفى للبراجماتية بل وتطبيقاتها التربوية وبالمبادئ والافكار التى حملتها هذه الثورات وقامت من اجلها بعض الحروب ونادت بها الحركات الفردية والسياسية ، ويتضح ذلك من سعيها الدائم نحو تمتع المتعلم بمزيد من الحرية، بل جعله محور الاهتمام فى العملية التعليمية .
(هـ) العوامل التى اثرت فى فكر جون ديوى :
تأثرت الجوانب الفلسفية والتربوية فى الفلسفة البراجماتية بفكر كل من تشارلز بيرس وجون ديوى ومن بعده شيلر ولكن يمثل فكر جون ديوى الهيكل العظمى لهذه الفلسفة ومن ثم كان من الضرورى القاء الضوء على العوامل التى اثرت فى هذا الفكر ومن ثم اثرت على الفلسفة البراجماتية بكليتها .
قضى جون ديوى طفولته بين الجماعات البيوريتانية التى استقرت فى نيوانجليند وقد ساهمت مبادئ هذه الجماعات فى تشكيل النمو العقلى والخلقى لديوى ، فضلا عن ذلك امتص من المجتمع الريفى الذى نشأ فيه ايمانه الشديد بالربط بين العلم والتعليم والعمل وادراكه لاهمية الوعى الاجتماعى وقوة سيطرة هذا الوعى على نواحى النشاط المختلفة فى المجتمع بل على معظم العلاقات الاجتماعية السائدة بين افراده .
واهتمام جون ديوى بتربية الطفل يرجع إلى اهتمام المجتمع الذى قضى فيه طفولته بالتعليم الابتدائى حتى يتعلم ابناء هذا المجتمع القراءة والكتابة ليستمر ارتباطهم بالكتاب المقدس قائما .
ويقول جون ديوى : إن كل شىء فى حياة الانسان قابل للتغيير إذا دعت الضرورة إلى تغييره ولا يجوز ان يقف شىء حائلا فى مجرى الاصلاح الاجتماعى وتوفير العيش الرغيد للانسان ويضيف ديوى قائلا لا بد من تغيير قواعد الاخلاق ان اقتضى الاصلاح ذلك ولا بد من تغيير اسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شىء .. بقصد تغيير الحياة تغييرا يجعلها اكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وفى تقدير المؤلف أن اقوال جون ديوى هذه ترجع إلى تاثره بخصائص المجتمع الغرب الاوسطى فى الولايات المتحدة الامريكية ومن هذه الخصائص روح المخاطرة والمغامرة والميل إلى العمل الحر الذى يؤدى إلى توقد الفكر والقدرة على الابتكار والايمان أن النجاح اكثر احتمالا من الفشل والاهتمام بالعلم الذى يعين على العمل والفكر الذى يرسم طريق النجاح .
ومما تقدم يتضح تأثر فكر جون ديوى بالثقافة الامريكية السائدة فى موطنه الاصلى الذى قضى فيه طفولته كما تأثر بالثقافة الامريكية السائدة فى مجتمع غرب وسط الولايات المتحدة الذى رحل اليه فى شبابه ورجولته .
ويعتبر الفكر الفلسفى لجون ديوى ملتقى فلسفات عدة نذكر منها : الفلسفة اليونانية التى أخذ عنها روح الفلسفة واتجاهات البحث والجرأة فى مهاجمة التقاليد والفلسفة الهيجيلية، والفلسفة الوضعية لاواجست كومت والتى اخذ عنها اهمية العلاقة بين العلم والفلسفة كما تأثر جون ديوى بمذهب بركلى الفيلسوف الانجليزى المشهور ومذهب التطور عند دارون وغيرهم من الفلاسفة .ويتضح مما تقدم أن فلسفة ديوى ملتقى فلسفات قديمة ووسيطة ومعاصرة .
وبعد ان عرض المؤلف تقدمه للفلسفة البراجماتية ثم نشأة المجتمع الامريكى والعوامل التى سادت فى هذا المجتمع وبعد أن ناقش العوامل العالمية والمحلية التى ساعدت عى صياغة هذه الفلسفة يستوجب الامر القاء الضوء على الاسس الفلسفية للفلسفة البراجماتية من جهة ثم تطبيقاتها التربوية من جهة أخرى والانتقادات التى وجهت اليها من جهة ثالثة.
الاسس الفلسفية للبراجماتية :
تتعدد وتتنوع الاسس الفلسفية التى تقوم عليها الفلسفة البراجماتية ويقصر المؤلف مناقشته للأسس الفلسفية للبراجماتية على ما يأتى :
1 – الطبيعة البشرية .
2 – نظرية المعرفة.
3 – فلسفة القيم .
4 – فلسفة التفكير.
5 – فلسفة التغير .
6 – فلسفة الخبرة.
أولا : الطبيعة البشرية :
تذهب معظم الفلسفات المادية إلى القول أن الانسان بدن فقط بينما يذهب العقليون الى القول ان الانسان عقل فقط ، وهناك فريق من الفلاسفة يقول ان الانسان بدن وعقل فى آن واحد، وهذا ما يطلق عليه الثنائية فى الطبيعة البشرية ورواد الفلسفة البراجماتية وخصوصا جون ديوى يرفضون هذه النظرة الثنائية للطبيعة البشرية كما يرفضون الطبيعة العقلية أو الروحية للطبيعة البشرية كما ذهب المثاليون
وقد ذهب جون ديوى فى فهمه للطبيعة البشرية مذهب الفلسفات المادية المعتدلة حيث يرى ان الانسان بدن أما ما يطلق عليه عقل فهو شكل من اشكال السلوك.
وفى ظل هذه النظرة البراجماتية للطبيعة البشرية فسر جون ديوى قرارات الانسان من خلال نظرية السلوك الانسانى وليس على اساس ان الانسان مكون من بدن وعقل والبراجماتيون وعلى رأسهم جون ديوى يرفضون العقل كاسم ويؤكدون ما يطلقون عليه السلوك الذكى، فالفعل فى نظر ديوى لم يعد اسما بل اصبح صفة تصف انواع معينة من السلوك البشرى ويتضح ذلك من قوله : ليس هناك عقل مستقل وهب فى حد ذاته ملكة التفكير وبنظرة البراجماتية للطبيعة البشرية على النحو السابق انزلت الفلسفة العقلية من العلياء ولم تضع الفلسفات المادية فى مكان الصدارة فى صدق النظرة للطبيعة البشرية، ولكن اتخذت لها موقفا مستقلا فهى تؤمن بان الانسان بدن وفى نفس الوقت تقرر وجود العقل على اعتبار ان سلوك ذكى وليس عقلا .
وفضلا عما تقدم فان البراجماتيين يقولون ان الانسان فى واقعة كائن حى يعيش فى بيئة اجتماعية وبيولوجية فى آن واحد ، وبذلك فانهم يؤكدون الجانب الاجتماعى للطبيعة البشرية، والبراجماتيون ينظرون إلى الطبيعة البشرية على انها مرنة وطيعة وقد انعكست هذه النظرة للطبيعة البشرية على رأيهم فى تربية الطفل حيث يرون ان هذه التربية تقوم على اعتبار ان الطفل كائن حى ايجابى مبتكر.
وقد تركت نظرة البراجماتية للطبيعة البشرية بصمات على الحياة التربوية حيث لا يكاد يخلو جانب من جوانب العملية التعليمية ألا وتأثر بوجهة نظر البراجماتية فى الطبيعة البشرية خصوصا مجالات : المتعلم والمناهج الدراسية والوسائل التعليمية .
ثانيا : نظرية المعرفة :
تنظر الفلسفة الواقعية إلى المعرفة على أنها مجرد انطباع اثار حسية على المخ وتعتمد دقة هذه المعرفة على مطابقة الاثار المطبوعة فى المخ للشئ الخارجى علاوة على ذلك فان كلما كثرت هذه الانطباعات زاد حجم المعرفة الانسانية فضلا عن ذلك فان الحواس تمثل المنافذ الخارجية الوحيدة للانسان وهذا يعنى ان المعرفة فى نظر الواقعية عملية سلبية وفى الوقت نفسه تنظر الفلسفات العقلية للمعرفة على أنها وجود للشىء المعروف فى العقل وعلى ذلك فان العقل مزود بمعرفة فطرية ومبادئ عامة يطلقون عليها المعرفة الفطرية . وفوق هذا فان العقل هو اداة المعرفة الاساسية والمعرفة فى نظر العقليين عملية ايجابية .
وترى البراجماتية ان المعرفة عبارة عن علاقات نشطة تقوم بين العارف والموضوع الذى يعرفه وذلك من خلال الحواس او الخبرة الحسية ونظرة البراجماتية للمعرفة على هذا النحو تشير إلى أنها عملية ايجابية كما تنفى وجود مبادئ عامة أو معرفة قبلية فى عقل الانسان ومما يدل على ذلك فان الطفل الذى يواجهه شئ لا ينظر اليه ثم تنطبع صورته فى ذهنة فقط ، ولكن هذا الطفل يقوم بعمل تجاه هذا الشىء فيمسك به أو يهزه او يفكه أو على الاقل يعضه وهكذا .
والمعرفة عند البراجماتية شىء يفعل ويختبر قبل الحكم عليه بصلاحية الاستعمال الدائم وقد تكون المعرفة فى البداية اخبار ريثما تنقلب إلى حقائق إذا جاءت مناسبة لحل مشكلات معينة بعد اختبارها فى بوتقه الخبرات , ومن التطبيقات التربوية لوجهة النظر هذه ما يتمثل فى ان المناهج الدراسية يجب ان تنبع من ذوات المتعلمين ولا تفرض عليهم من الخارج وهذا معناه عدم بناء المناهج الدراسية مسبقا او بمعزل عن مشاركة المتعلمين.
وينظر البراجماتيون إلى العقل – كما سبق ان قلنا – على أنه مجموعة الخبرات التى كونها الفرد من خلال عمله ونشاطه والعقل بهذا المعنى يكون نشيطا استطلاعيا , فضلا عن ذلك يقولون ان الانسان لا يقتصر دوره على مجرد استقبال المعرفة بل انه يصنعها ايضا والمؤلف يوافق البراجماتين فى ان دور الانسان فى التعامل مع المعرفة لا يقتصر على التلقى ولكن يمتد إلى صناعتها .
وقيمة الفكرة عند البراجماتين تكون باثارها العملية فى حياة الانسان فكل فكرة لا تؤدى إلى سلوك عملى فى رأيهم هى فكرة باطلة أى ان معيار قبول الفكرة عند البراجماتين هو مقدار منا تحققه من منفعة , والمؤلف لا يوافق البراجماتين تماما فيما ذهبو اليه حول هذه المسألة ويقول إن معيار البراجماتيين لقبول الافكار من عدمه تبعا لما تحققه من منافع معيار ملائم ما دام لا يتعارض مع قيمة خلقية او شعيرة دينية والا فلا .
ويقول البراجماتيون ان الفكرة الصادقة هى التى تحقق منفعة والحكم على هذه المنفعة لا يكون الا بالتجريب , والمؤلف يقرر ان قبول ايه فكرة تحقق للفرد منفعة دون الالتزام بضوابط شرعية وخلقية ضرب من ضروب العبث ويؤدى بالمجتمع فى النهاية إلى حياة فوضوية ينعدم فيها الاهتمام بالمصلحة العامة ، وإذا كان التجريب هو بوتقة اختبار صدق المعرفة فى نظر البراجماتيين فإن المؤلف لا يوافقهم فى ذلك بشكل مطلق ذلك لان التجربة قد تصيب وقد تخطئ علاوة على ان بعض انواع المعرفة يتعذر اخضاعها للتجريب .
وبوجه عام فان المعرفة عند البراجماتيين تنبع من المشاركة الفعلية للفرد فى بيئته وتفاعله مع عناصر هذه البيئة خصوصا انه جزء منها, فالمعرفة اذن ليست قوة ذهنية مصدرها الحس والعقل معا فحسب ولكنها نابعة من الخبرة ونتيجة لها فى نفس الوقت , فضلا عن ذلك فالمعرفة وسيلة وليست غاية كما ان الخبرة وسيلة من وسائل المعرفة .
ويتضح مما تقدم ان الفلسفة الواقعية والفلسفة العقلية يقعان على طرفى نقيض فيما يتعلق بنظرية المعرفة بينما تقع الفلسفة البراجماتية فى موقع وسط بين هاتين الفلسفتين والدلائل الاتية تشير إلى ذلك :
1 – تتفق البراجماتية مع الواقعية فى كون الحواس او الخبرة الحسية هى أداة المعرفة ، بينما تختلف معها فى اعتبار المعرفة عملية سلبية .
2 – تتفق البراجماتية مع المثالية فى أن المعرفة عملية سلبية وان الحقائق الجزئية ليست معرفة لانها تكون شتاتا لا يجمع بينها مبدأ عام بينما تختلف فى وجود مبادئ عامة فى العقل أى وجود معرفة قبلية.
3 – المعرفة عند البراجماتيين ليست عملية حسية صرفة كما انها ليست عملية عقلية صرفة ولكنها مزيج من الاثنين معا بطريقة معقدة ومتشابكة .
4 – المعرفة عند البراجماتيين اداتها الخبرة وفى الخبرة والمعرفة يتفاعل الفرد مع المواقف المختلفة فى بيئته ومع عناصر هذه البيئة ويتبادلان فضلا عن ذلك التأثير والتأثر علاوة على ذلك فان ما تأتى به الحواس ليس معرفة فى حد ذاته حتى ينتظم فرضا او فروض محتملة وهذه عملية عقلية ملاءمة للموقف ككل . اما الخطوة الرابعة فتشمل اختبار صحة الفروض وهذا لا يتأتى إلا من خلال وضع خطة دقيقة لهذا الاختبار بل وتنفيذها على وجه الدقة شريطه أن يكون التعديل فى هذه الخطة فى اضيق الحدود وبالقدر الذى تتطلبه الضرورة القصوى وبعد هذا الاختبار يتم الوصول إلى نتائج معينة ويترتب على الانتهاء من هذه الخطوة الدخول فى الخطوة الخامسة والاخيرة والتى تتمثل فى تقويم هذه النتائج وتعميمها وفى هذه الخطوة يتم تقويم هذه النتائج فى بوتقه الخبرات فإذا ثبت صمودها وقوتها دخلت مجال التعميم والشمول واخذت شكل النظرية والقانون .
ويتضح مما تقدم أن المعرفة فى نظر الفلسفة البراجماتية عملية ايجابية من خلال علاقات نشطه بين الانسان والموضوع الذى يحاول ان يعرفه ومن ثم يدخل هذا الانسان فى علاقات مع العالم الخارجى المحيط به فيؤثر فيه ويتأثر به اذن المعرفة فى نظر هذه الفلسفة تتشكل نتيجة للتفاعل بينه وبين المواقف المختلفة التى يواجهها فى البيئة ، بل التفاعل مع عناصرها تفاعلا قويا .
ونظرة الفلسفة البراجماتية الى المعرفة لها عظيم الاثر فى التطبيقات التربوية وقد ترتب على هذه النظرة انتشار الاخذ بمناهج النشاط فى ميدان التربية والتعليم خصوصا ما يطلق عليه مناهج الوحدات او مناهج المشروعات.
ثالثا : فلسفة القيم :
القيم بوجه عام لا تعدو أن تكون المعايير او المقاييس التى يتفق عليها الناس ويتخذون منها موازينا يزنون بها اعمالهم ويحكمون بواسطتها على تصرفاتهم المادية والمعنوية وترتبط القيم عند البراجماتيين بالبيئة التى يعيش فيها الانسان سواء كانت هذه البيئة مادية أم اجتماعية وتنشأ القيم فى نظرهم نتيجة لمحاولات الانسان المستمرة فى البحث عن أساليب للسلوك وطرق للتصرف تحقق له اكبر قدر من السعادة من جهة والمنفعة من جهة أخرى , وعندما تتغير ظروف البيئة بشقيها المادى والاجتماعى تقتضى الحاجة البحث عن حلول جديدة لما يجد من المشكلات ومن ثم تتقلب القيم فى المجتمع تبعا لتقلب الظروف والاحوال.
اذن القيم فى نظر البراجماتين متغيرة وليست ثابتة كما انها نسبية وليست مطلقة , ذلك لانها تتغير من عصر إلى عصر فى ذات المجتمع كما تتقلب من مجتمع إلى أخر والانسان فى جميع الاحوال هو الذى يحدد القيم التى تحقق له الحياة الطيبة والمنفعة المطلوبة ، والمؤلف لا يوافق البراجماتين تماما فيما ذهبوا اليه ويضيف قائلا لو دقق البراجماتيون فى موضوع القيم لوجدوا انها ألوان وانواع , وأهم انواع القيم : القيم الخلقية والقيم الاقتصادية والقيم الاجتماعية والقيم الجمالية ..وغيرها , ولو دققوا النظر فى القيم الخلقية لوجدوا ان شقا منها ثابتا وشقا آخر قابلا للتغير, والشق الثابت من القيم الخلقية هو الذى مصدره الاديان مثل الصدق فى القول والاخلاص فى العمل أما القيم الاقتصادية والقيم الاجتماعية والقيم الجمالية فهى فى نظر المؤلف متغيرة إلى حد كبير والخطأ الذى وقع فيه البراجماتيون هو تعميم صفه التغير على سائر انواع القيم وهذا امر ليس بصائب فى كل الاحوال .
وترى البراجماتية أن لدراسة القيم اهمية بالغة فى ميدان التربية ومن اهم جوانب هذه الاهمية ما يلى :
1 – تتصل القيم اتصالا مباشرا بالاهداف التربوية التى تسعى إلى تحقيقها من جهة وغرسها فى التعلم من جهة أخرى ومعنى هذا ان بعض القيم يشكل اهدافا تربوية ومن هذه القيم على سبيل المثال وليس الحصر احترام العمل ، الاخلاص فى أداء الواجب ، الموضوعية والتجرد فى الحكم على الآراء والافكار وغرها .
2 – القيم طاقات للعمل ، ودوافع للنشاط ولذلك فإن اهتمام التربية يغرس القيم فى نفوس المتعلمين يجب ان يفوق اهتمامها بتزويدهم بالافكار والمعلومات .
3 – تمثل القيم اطر مرجعية ومعايير على اساسها يتم تقييم الاعمال سواء كانت تربوية أو غير تربوية وبناء على نتائج هذا التقويم يكون قرار الاستمرار فى هذه الاعمال أو ايقافها .
4 – وللقيم اهمية رابعة تتمثل فى قيمتها فى امكانية التنبؤ بسلوك الفرد مستقبلا وتتعدد مصادر القيم وتتنوع فمن هذه المصادر على سبيل المثال وليس الحصر - الدين والعقل والمجتمع بماضيه وحاضره ومستقبله- والحقيقة ان البراجماتية تؤكد ان حاضر المجتمع على وجه الخصوص يمثل المصدر الاوحد للقيم والمؤلف يختلف مع البراجماتية ويقرر تعدد وتنوع مصادر القيم بل يقرر ان الدين يأتى على قمة هذه المصادر اما العقل والمجتمع فيأتيان فى مرتبة تالية وهكذا .
والبراجماتيون لا يؤمنون بخلود القيم مثل الحق والخير والجمال والصدق على النحو الذى امن به العقليون.
فالحق مثلا قيمة خالدة فى نظر العقليين بينما هو من صنع الانسان فى نظر البراجماتيين ويتضح ذلك من قول جون ديوى : الحق يصنع كالقوة والصحة والغنى , والمؤلف يختلف مع البراجماتيين وخصوصا جون ديوى فيما ذهبوا اليه فلا شك أن هناك بعض القيم لها صفة الخلود ومن هذه القيم الصدق والاخلاص والامانة.. الخ , بينما هناك قيم أخرى متغيرة مثل القيم الاقتصادية والقيم الاجتماعية وغيرها وربما يرجع السبب فى ذلك إلى شمولية نظرة البراجماتيين للقيم ولم ينظروا اليها على انها الوان وانواع منها ما هو خالد مثل بعض القيم الخلقية ومنها ما هو متغير مثل القيم الاقتصادية والاجتماعية وهكذا ولو نظروا هذه النظرة لاقتربوا من حقيقة القيم.
ويتضح مما تقدم أن الفلسفة البراجماتية تتعامل مع القيم على اساس انها من خبرات الافراد وبهذا فإن البراجماتية تؤكد على الجوانب الاجتماعية فى مجال القيم . ولذلك فإن المجتمع فى نظر البراجماتى مجال الخبرات المشتركة، والاندماج فى هذا المجتمع – فى نظر البراجماتية – من اعظم الاهداف فى المجال التربوى ولذلك فان البراجماتية تحث التربويين على غرس القيم فى نفوس الناشئة نابعة من المجتمع ومؤدية إلى تحقيق السعادة لهم والنفع ايضا .
رابعا : فلسفة التفكير :
تتعدد انماط التفكير فمنها على سبيل المثال وليس الحصر :
التفكير القائم على المساومات والحلول الوسط ، والتفكير القائم على الترقيع والتفكير الخرافى والتفكير المنطقى، والتفكير الاستدلالى والتفكير العلمى وهكذا . والتفكير العلمى شعبة من شعب التفكير ولكنه يقوم على الملاحظة والتجربة اى انه تفكير اجتماعى إذا كان المجتمع هو بوتقة التجريب وتفكير معملى إذا كان المعمل هو بوتقة التجارب .
وإذا كانت الفلسفة البراجماتية تؤمن بالمعرفة القائمة على الخبرة وإذا كان معيار صدق المعرفة لديها هو لسان التجربة فإن هذه الفلسفة تعتمد التفكير العلمى القائم على الخبرة من جهة والتجربة من جهة أخرى ويحتل هذا النمط من التفكير مركز الصدارة فى نظرها وتتضاءل امامه الوان التفكير الاخرى حتى إن التفكير العلمى يعتبر فى نظر البراجماتية هو الاسلوب الامثل الذى يحقق الخير للفرد والمجتمع .
ومن منطلق اهتمام البراجماتية بالخبرة من جهة واهتمامها بالتجريب من جهة أخرى فان التفكير العلمى فى نظر البراجماتيين يمر بخمس خطوات هى :
الاحساس بالمشكلة وتحديد المشكلة وفرض الفروض واختبار صحة الفروض واخيرا تقويم النتاتج وتعميمها .
والمؤلف لا يشارك البراجماتية القول بأن التفكير العلمى هو نمط التفكير الاوحد والامثل ولكن مع تقديره لاهمية هذا التفكير فانه يكرر اهمية التفكير المنطقى واهمية التفكير الاستنباطى ويرفض بالطبع انتشار التفكير الخرافى بين صفوف المتعلمين .
وتأسيسا على ما تقدم فان البراجماتيين يسعون إلى نشر التفكير العلمى بين المتعلمين وعلى التربية ان تسعى عن قصد لتحقيق ذلك والمؤلف يتفق معهم فيما ذهبوا اليه مع تمسكه الشديد بضرورة سعى التربية لنشر التفكير المنطقى والتفكير الاستنباطى كذلك بين صفوف المتعلمين ذلك لان هذا من شأنه تحقيق التوازن والانسجام بين جوانب الحياة فى المجتمع على اختلافها .
خامسا : فلسفة التغير :
اختلف الفلاسفة حول قضية التغير ففريق منهم لم يقره ونظر للحياة على أنها ثابتة , وفريق آخر قرره على استحياء وكأن هذا الفريق يقول : ان هناك امورا لا تقبل التغير وامورا أخرى تقبله وهناك فريق ثالث يقرر مطلق التغير ومعنى مطلق التغير : أن التغير لا يترك جانبا من جوانب الحياة إلا اصابه والبراجماتيون يدخلون تحت مظلة الفريق الثالث الذى يقول بمطلق التغير فهذا هو رائدهم جون ديوى يقول : الظروف الاجتماعية ليست فقط فى حالة تغير، بل أن التغير يصيب مختلف جوانب الحياة كما ان التغيرات الحادثة تتجه فى مسالك مختلفة ... إلخ .
والمولف لا يوافق البراجماتين فى قولهم بمطلق التغير، ذلك لأن هناك جوانب فى الحياة متغيرة كحركة العلم والتكنولوجيا مثلا تطورا او ركودا وهناك جوانب تغيرها بطئ مثل القيم الاخلاقية ويصح ان نطلق على ما يصبها من تغير "تغير نسبى" وهناك جوانب لا يمسها التغير مطلقا مثل قيم : الصدق والامانة والاخلاص ومثل العلاقات القائمة بين الكواكب والنجوم فى هذا الكون الفسيح ولذلك فان نظرة البراجماتيين للتغير كانت من زاوية ضيقة او انهم تعصبوا لقضية التغير .
ونظرا لايمان البراجماتيين بمطلق التغير فأنهم يدعون إلى مجتمع يرسم خططه اولا بأول فى سعيه لتحقيق النمو والتقدم ولذلك فهم يعترضون على التخطيط المسبق للمجتمع . ولذلك يتجه البراجماتيون إلى تحقيق نمو كل من الفرد والمجتمع والنمو الذى ينشده البراجماتيون هو الذى يؤدى إلى تحقيق مزيد من النمو ، وفى تقديرهم ان هذا النمو يتحقق عن طريق تنمية الذكاء الانسانى فى مؤسسات التربية ودور التعليم.
وتأسيسا على ما تقدم فان البراجماتيين ينادون بعدم التخطيط للمناهج الدراسية مسبقا والاكثر من ذلك دعوتهم لمشاركة المتعلمين فى تخطيط هذه المناهج .
سادسا : فلسفة الخبرة :
الخبرة من الموضوعات التى حظيت باهتمام الفلسفة البراجماتية حتى كاد يسميها البعض فلسفة الخبرة وللخبرة معان كثيرة منها ما قال به جون ديوى ومنها ما قال به المهتمون بهذه الفلسفة
ويقول ديوى : إن الخبرة تفاعل الانسان مع البيئة .. ومن خلال هذا التفاعل تحدث الخبرة الانسانية التى يتعلم منها الانسان فالخبرة اذن مظهر من مظاهر النمو الانسانى بغض النظر عن اتجاهه وعما إذا كان مرغوبا فيه ام مرغوب عنه .
ويذهب حسين سليمان قورة إلى القول : ان الخبرة كيفية معرفية فى ميدان ما تمكن صاحبها من القدرة على التصرف التطبيقى المناسب فى المواقف التى يتضمنها هذا الميدان أو التى تتصل به من اية زاوية , والخبرة بهذا المعنى تصدق على ما يتصف بالنفع والضرر على حد سواء فالخبرة فى القراءة محمودة ولكنها فى السرقة مبغوضة.
ويقول مصطفى درويش : الخبرة عملية حية ونامية ومتطورة تنمو مع نمو الفرد واطراد تعلمه من الحياة فالخبرة تقوم اذن على الفعل والانفعال والتأثير والتأثر وفهم لما يقع حول المرء والاستفادة من ذلك كله فى المستقبل اى الاسبتصار بالعواقب , والخبرة فى نظره نوعان إحداهما ساذجة والاخري علميه، وهذه الاخيرة تبني على الفهم والادراك والدراية بالعلاقات بين الاشياء على نحو يساعد الانسان على التكييف مع البيئة بل السيطرة عليها فى المستقبل .
ومما تجدر الاشارة اليه ان للخبرة جانبين احدهما مباشر والاخر غير مباشر والجانب الاول يتمثل فى ملاءمة الخبرة للشخص أو عدم ملاءمتها واستمتاعة بها من عدمه , اما الجانب الثانى لها فيتمثل فى مدى قدرتها على التأثير فيما لدى الشخص من خبرات
ولذلك نادى جون ديوى بمبأدين اساسيين للخبرة هما التواصل والتفاعل مع البيئة
والمؤلف يرى ان معانى الخبرة على الوجه السابق تتفق فى الجوهر وان اختلفت فى الصياغة وذلك يرجع إلى وحدة مصدرها وهى اقوال جون ديوى. ويعود لجون ديوى الفضل الاول فى التأكيد على وحدة الخبرة فى الانسان، ذلك لانه يربط بين الجوانب : العقلية والانفعالية والعملية والفكرية والخلقية للخبرة .
والواقع ان قول جون ديوى بوحدة الخبرة يتفق مع العقل من جهة ومع الواقع من جهة أخرى والخبرة نوعان :
احداهما الخبرة المربية والثانية الخبرة غير المربية والخبرة من النوع الاول خبرة مرغوب فيها فى مجال التربية والتعليم مثل الخبرة الجيدة فى ميدان القراءة مثلا اما الخبرة من النوع الثاني فغير مرغوب فيها فى هذا المجال ومنها على سبيل المثال الخبرة فى ميدان السرقة .
وهناك شبه اجماع بين فلاسفة التربية المعاصرين – العرب والاجانب – على ان
للخبرة المربية مقومات اساسية يمكن اجمالها فى النقاط التالية :
1 – الخبرة المربية خبرة نامية ومتطورة .
2 – الخبرة المربية خبرة متغيرة .
3 – تقوم الخبرة المربية على تفاعل الشخص مع بيئته المادية والاجتماعية .
4 – الخبرة المربية خبرة مستمرة .
5 – الخبرة المربية خبرة تقوم على التكامل بين الجوانب العقلية والوجدانية والبدنية والفكرية وغيرها من جوانب الخبرة .
6 – الخبرة المربية خبرة فردية واجتماعية بل خبرة عقلية وجسمية فى آن واحد.
ومن خلال ما تقدم يمكن اشتقاق وظيفة الخبرة المربية التى تتمثل فى الآتى :
1 – زيادة المعانى والافكار فى المواقف المختلفة بل وتعميق هذه المعانى وتلك الافكار .
2 – تنمية قدرة الانسان على التحكم فى السلوك والانتفاع ببيئته.
3 – الخبرة المربية خبرة حسية وخبرة عقلية فى آن واحد الامر الذى يترتب عليه تطوير وظيفتها وتوسيع دائرتها .
ومما تقدم يتضح ان للخبرة المربية اهمية بالغة فى ميدان التربية والتعليم وفقا لما ورد فى الفلسفة البراجماتية كما يتضح ايضا